فصل: تفسير الآيات (108- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (99- 101):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}.
التفسير:
آوى إليه أبويه: ضمهما إليه، وكان مأوى لهما.
نزغ الشيطان: أي أفسد الشيطان، والنزغ، والزيغ، بمعنى.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}.
هناك أحداث كثيرة طويت، ولم يجر لها ذكر هنا، إذ لم يكن لها أثر ظاهر في مضمون القصة.
وها نحن أولاء نرى يعقوب وبنيه في مصر، بعد أن كانوا منذ لحظة في أرض كنعان، نراهم في موقف استغفار واسترضاء من جهة، وموقف تأنيب وتأديب من جهة أخرى.
وها هو ذا يوسف يلقى أبويه وإخوته، ويضمهم إليه، ويفتح لهم الطريق إلى مصر وينزلهم فيها منزل الأمن والسلامة.. {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
ثم يرفع أبويه على العرش، ويدعوهم جميعا إلى مشاركته مجلس السلطان والحكم، فيدخلون عليه، ويؤدون له تحية الملك والسلطان، وينزلون على حكم العرف السائد في مصر، عند لقاء الملوك، فيخرّون له ساجدين.
وإذ يشهد يوسف هذا الموقف، تتمثل له في الحال رؤياه التي رآها في صغره، والتي عرضها على أبيه قائلا: {يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}.
وهنا يقول يوسف لأبيه: {يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا} أي قد تحققت كما رأيتها في المنام.
أمي، وأبى، وإخوتى الأحد عشر.. {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}.
فمن إحسان اللّه إلى يوسف أن حقق له هذه الرؤيا، وأن أخرجه من السجن، وأن جمع بينه وبين أهله، فجاء بهم من البدو، وأنزلهم الحضر.
وفى قوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدر العباد، ثم أراهم من عواقبها غير ما يتوقعون.
فمن كان يقع في تقديره أن تلك الأحداث التي بدأت بها قصة يوسف من إلقائه في الجب، إلى وقوعه في يد جماعة من التجار، إلى بيعه لرجل من مصر، إلى كيد امرأة العزيز له، وتآمرها مع جماعة النسوة عليه، إلى إلقائه في السجن بضع سنين- من كان يقع في تقديره أن هذه الأحداث ينسج من خيوطها عرش، ويصاغ من حصاها تاج، ويولد من تصارعها ملك يجلس على هذا العرش، ويتوّج بهذا التاج؟ إن ذلك لا يكون إلا من تدبير حكيم خبير، يمسك الأسباب بلطفه، فإذا هي طوع مشيئته، ورهن إرادته، فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويجعل من المكروه محبوبا، ومن المحبوب مكروها: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [216: البقرة]: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [19: النساء]- وفى قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} إشارة إلى أن لطف اللّه سبحانه وتعالى، وتدبيره المحكم لما يريد، إنما هو عن علم العليم، وحكمة الحكيم، لا يشاركه أحد في علمه وحكمته، فبعلمه المحيط بكل شيء، تتولد الأسباب والمسببات، وبحكمته البالغة، تقدّر الأمور، وتحكم في أسبابها.. وذلك هو اللطف في كماله وتمامه، فلا يقع شيء في ملك اللّه إلا كان اللطف سداه ولحمته!.
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
بهذه الابتهالات وتلك التسابيح، يستقبل يوسف هذه النعم التي أنعم اللّه بها عليه.. فيحدّث بنعمة ربّه، ويسبّحه بها، ويحمده عليها، ويستزيده من فضله، بأن يتم تلك النعمة عليه، وأن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.. فذلك هو الذي يجعل لتلك النعم مساغا في فمه، وطعما هنيئا في حياته!.
وإلى هنا تنتهى قصة يوسف التي كانت السورة كلها تقريبا معرضا لها، وحديثا عنها.
ويلاحظ أنّ قصّة يوسف على خلاف القصص القرآنى كلّه- جاءت في معرض واحد، لم يذكر معها غيرها من قصص الأنبياء، ولم تذكر هي في معرض آخر، ولم يجر عن يوسف حديث في غير هذه السورة، اللهم إلا أن يذكر اسمه مع جماعة الأنبياء، ذكرا لا يراد منه إلا تعداد أسمائهم، أو مجرد الإشارة إلى قصته، للعبرة والعظة!.
ولعلّ الحكمة في هذا هي أن هذه القصة تعتبر حدثا واحدا، هو رحلة عبر الزمن، للإنسان من مولده إلى مماته، وعلى طريق هذه الرحلة تقوم سدود، وتهبّ أعاصير، ولكن يد اللطف والقدرة تبلغ بهذا الإنسان مأمنه، وتخرجه من تلك التجربة التي عانى فيها الشدائد والأهوال- جوهرا صافيا، وإنسانا عظيما يمسك بكلتا يديه خير الدنيا والآخرة جميعا.
ولو أن هذه القصّة صنع بها ما في القصص القرآنى، فعرضت في أكثر من معرض لتمزقت وحدة الشخصية التي هي العمود الفقرى للقصة.
ومن جهة أخرى، فإن القصة وقد اصطبغت من أولها بلون الدم ثم كان ختامها الأمن والسلامة- فقد كان مما يتفق وتطلعات النفوس أن تجيء القصّة هكذا كيانا واحدا، يجمع بين بدئها وختامها.
ومع هذا، فلو جاء بها القرآن على نسق القصص القرآنية الأخرى، فعرضها في أكثر من معرض لما أخلّ ذلك بشيء من مقوماتها.. ولكن هكذا جاء بها القرآن، فكان ذلك شاهدا من شهوده الكثيرة على امتلاكه ناصية البيان، وتمكنه غاية التمكن من فنون القول! فيجيء بالقصة في معارض مختلفة، فإذا هي كيان واحد، وخلق سوىّ، ينبض بالحياة، ويفيض بالجمال والجلال.. ثم يجيء بالقصة في معرض واحد، فإذا هي مائدة تجمع شهى الطعام، وتؤلف بين مختلف الطعوم، فإذا الوارد عليها، والطاعم منها آخذ بحظه من كل طعام، متذوق من كل لون.. حتى إذا قارب حدّ الشبع وجد على لسانه حلاوة هذا الختام الذي انتهت به أحداث القصة.
فسبحان من هذا كلامه، و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً}.

.تفسير الآيات (102- 107):

{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌمِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)}.
التفسير:
بدأت السورة بخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم. بقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}.
ثم ما كاد النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يفتح قلبه لتلقّى ما يوحى إليه من ربّه من قصص، حتى وجد نفسه مع قصة يوسف عليه السلام، فصغا بقلبه، وروحه إليها.
وفى نغم علوىّ، وبيان ربانىّ، جرت أحداث القصة، وترددت أصداؤها في كيان الرسول الكريم، وانسكب نميرها في وجدانه، قطرة قطرة، حتى إذا بلغت نهايتها، كان قد ارتوى، وانتعش، ووجد برد الراحة في هذه الواحة الظليلة التي يستروح فيها أرواح العافية، بعد أن أضناه السير، وأضرت به لفحات السّموم، التي تهب عليه من المشركين، من سفهاء قريش وحمقاها! ففى أفياء هذه الواحة الظليلة، وعلى خطوات هذه الرحلة الطويلة يستعرض الرسول الكريم ما يجرى بينه وبين قومه وأهله، وما يكيدون له من كيد، وما يرمونه من ضرّ، لا لشيء إلّا لأنه يدعوهم إلى الخير، ويمدّ إليهم يده بالهدى- فيرى أن أخا له من أنبياء اللّه، قد كيد له هذا الكيد العظيم، من إخوته، وطرح به في مطارح الهلاك، بيد أبناء أبيه، فلطف اللّه به ونجّاه من تلك الكروب، ثم مكّن له في الأرض، وبسط يده وسلطانه على هؤلاء الذين مكروا به، وكادوا له! وتلك هي عاقبة الصّابرين المتقين! فليهنأ النبيّ الكريم إذن ولينظر ما يفتح اللّه له من رحمة، وما يسوق إليه من فضل.. فإن العاقبة له، والخزي والخذلان على الكافرين! وإنه ما يكاد الرسول الكريم يمسك بأطراف هذه القصة، ويردّد النظر فيها، حتى يجد الرفيق الذي يصحبه، ويقيم نظره على تلك القصّة، ويشير له إلى مواقع العبرة والعظة منها.. وإذا كلمات اللّه تلقاه بهذا الخطاب الذي يلفته إلى ذاته، ويذكّره بأن ذلك الحديث كلّه إنما هو حديث إليه، ومناجاة له من ربّه، يجد فيها ريح العافية، وبرد العزاء.
{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}.
فهذا الذي سمعته أيها النبيّ من قصة يوسف، هو من أنباء الغيب، التي أوحى اللّه بها إليك، ليثبّت بها فؤادك، ويربط بها على قلبك!- {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
أي أن النبيّ الكريم لم يكن بمشهد من هذه الأحداث، حتى يعلمها، ولم يكن يتلو كتابا من قبل، حتى يقع عليها: {ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا} [49: هود].
والذين أجمعوا أمرهم، وهم يمكرون، هم إخوة يوسف، الذين قالوا:
{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ}.
فهذا ما أجمعوا أمرهم عليه، وهذا هو مكرهم الذي مكروه.. ولم يكن النبيّ بمشهد من هذا.
{وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له لما يلقى من قومه من كيد ومكر.. فهكذا النّاس، يغلب شرّهم خيرهم، ويطغى سفهاؤهم وجهالهم على العقلاء والراشدين فيهم.. وإنه مهما حرص النبيّ على هداية الناس، ومهما اجتهد في طلبهم إليه، وشدّهم نحوه فإن أكثرهم على خلاف وإباء!.
فإذا كان في بيت النبوة وفى سلالات الأنبياء، ينبت مثل هذا الشرّ، ويقع مثل هذا الذي وقع بين يوسف وإخوته- فليس بالمستغرب، ولا من غير المتوقع أن يرى النبيّ في أهله، وقومه، من يكيدون له، ويبغون الشرّ به!
{وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} هو تقريع، وتسفيه، لهؤلاء الحمقى السّفهاء الذين يتنكرون لحملة الهدى إليهم، ودعاة الخير فيهم، وهم لم يطلبوا منهم على ذلك أجرا، ولا يريدون جزاء ولا شكورا.
فلو أن النبيّ الكريم، كان يطلب من قومه أجرا على هذا الذي يقدّمه لهم من خير، لكان لهم وجه في ردّه والتأبى عليه، وإن كان الذي بين يديه لا يستكثر عليه أي أجر وإن غلا، وأي ثمن وإن عظم.. ولكنه، إذ كان ولا شيء من متاع هذه الدنيا يوفّى ثمنه، أو يؤدى أجره، فقد جعله اللّه سبحانه- فضلا منه وكرما- رحمة مهداة إلى عباده.. وهل يقدّر لضوء الشمس ثمن؟ أو للروح التي تلبس الأجساد قيمة؟ ذاك من هذا سواء بسواء! {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ}.
وليست هذه الآيات البينات التي يطلع بها الرسول على قومه، ويؤذّن بها فيهم- ليست إلا بعض آيات اللّه الكثيرة المبثوثة في هذا الوجود.. فما أكثر تلك الآيات التي بين يدى النّاس، وتحت أبصارهم، لو أنهم نظروا في هذا الوجود، وفتحوا عقولهم وقلوبهم له.
وإن العاقل ليهتدى إلى اللّه، ويتعرف إليه، من غير أن يدلّه على ذلك دليل، أو يرشده مرشد، لو أنه أحسن توجيه أجهزته التي أودعها اللّه فيه، على هذا الوجود الذي حوله، بل على نفسه ذاتها.. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [21: الذاريات].. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} [5- 7: الطارق].
ولكن- مع هذا ومع ما يعلم اللّه سبحانه وتعالى من غفلة النّاس عن تلك الآيات الكونية- فإنه- سبحانه- قد بعث فيهم من أنفسهم هداة يهدونهم إلى الحق، ويكشفون لهم معالم الطريق إلى اللّه، من غير أجر.
فمكروا بآيات اللّه، وكذبوا رسله.. {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [34: إبراهيم].
{وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
وهذا صنف آخر من الناس.. فإنه إذا كان أكثر الناس لا يؤمنون باللّه، ولا يستجيبون لدعوة الداعي الذي يدعوهم إليه، فإن كثيرا منهم كذلك يؤمنون باللّه، ولكنهم لا يخلصون إيمانهم له، ولا يقيمون هذا الإيمان على وجهه الصحيح.. فهم مؤمنون، وغير مؤمنين.. يؤمنون باللّه، وبغير اللّه، فيجعلون مع اللّه آلهة أخرى، أو شفعاء يتقربون بهم إليه، مثل مشركى قريش، الذين يقولون عن أصنامهم التي يعبدونها: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].. فهذا شرك باللّه، لا يصح معه إيمان مؤمن.
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
الغاشية: هي التي تهجم على الناس، وتشتمل عليهم، ولا تستعمل إلا في مقام الضرّ والأذى.
البغتة: المباغتة والمفاجئة.
والمعنى، أفيأمن هؤلاء المشركون من قريش، الذين كذبوا رسول اللّه، وآذوه- أفيأمنون أن يأخذهم اللّه ببأسه، وأن تغشاهم سحابة من عذابه، فتهلكهم كما أهلكت الظالمين قبلهم؟ وإذا أمنوا هذا، أفيأمنون أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم غافلون عنها، لم يعملوا حسابا لها؟.
ماذا يكون موقفهم يومئذ؟ وهل يلقون إلا الخزي والهوان، والعذاب الأليم؟.
والاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على هؤلاء المشركين، موقفهم هذا، الذين بعدوا به عن طريق الهدى، وركبوا فيه طريق الضلال، فهم- وهذه حالهم- في معرض الهلاك في الدنيا، بنقمة من نقم اللّه تأخذهم بغتة، فإن لم يعجل لهم اللّه البلاء في الدنيا ضاعف لهم العذاب في الآخرة، {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.

.تفسير الآيات (108- 111):

{قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
التفسير:
بهذه الآيات تختم سورة يوسف.. فيؤذّن النبيّ الكريم في قومه بقوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
فالسبيل التي استقام عليها النبيّ بأمر ربه، ودعا الناس إلى أن يأخذوا خطوهم عليها وراءه- هذه السبيل، هي سبيله، لا يحيد عنها، ولا يلتفت إلى غيرها.
وإنه ليدعو إلى اللّه على هدى ونور من ربه، فقد أبصر الحق، واستيقنه، وعرف الخير وطعم منه.. فهو يدعو الناس إليه، ليأخذوا حظهم من فضل ربهم، ولينزلوا منازل رحمته ورضوانه.. فمن اتبع الرسول، فقد عرف هذا الحق، وطعم من ذلك الخير، فكان على هدى وبصيرة.
قوله {وَسُبْحانَ اللَّهِ} معطوف على مقول القول: {هذِهِ سَبِيلِي} أي قل هذه سبيلى، وقل سبحان اللّه، أي تنزيها للّه عن الأنداد والشركاء.
وقل {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين يجعلون مع اللّه آلهة أخرى.
{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى}.
وهذا ردّ على المشركين الذين ينكرون على النبيّ أن يؤذّن فيهم بكلمات اللّه، وأن يدعوهم إلى اللّه بما أوحى إليه من ربه.. فقد صورت لهم أوهامهم المضلّة، أن الرسول الذي يبعثه اللّه، ينبغى أن يكون على غير شاكلة الناس، كأن يكون ملكا من السماء، أو نحو هذا.
ولو أنهم نظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، والتفتوا إلى ما حولهم، لرأوا أن رسل اللّه جميعا كانوا من البشر، وكانوا من أقوامهم، وبلسانهم.. {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [4: إبراهيم].
وفى قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْقُرى} إشارة إلى تلك القرى، التي يرى المشركون من قريش مخلّفات من عمروها قبلهم من عاد وثمود.. وإلى هذه القرى يشير اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [27: الأحقاف].
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
هو إلفات لمشركى قريش، إلى تلك القرى التي يمرون عليها في طريقهم إلى الشام مع رحلة الصيف.. فليقفوا قليلا على أطلالها، وليروا كيف كانت عاقبة الذين كذبوا برسل اللّه.. ولقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فما عصمتهم قوتهم، من بأس اللّه إذ جاءهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه من شيء! قوله تعالى: {وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}.
إنها العبرة التي يستخلصها العقلاء من الوقوف على أطلال هذه القرى الظالم أهلها.. وإنها لتنطق بأن الحياة الدنيا متاع زائل، وزخرف حائل، وأن الدار الآخرة خير وأبقى، للذين اتقوا ربهم، وتزودوا لتلك الدار بالعمل الصالح والتقوى.
وفى قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضّالين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! فلقد عطلوا عقولهم، فلم يهتدوا بها إلى خير، ولم يتعرفوا بها على حق.. فخسروا الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسران المبين.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
استيئس: واجه اليأس، ووقع في تصوره أن لا ملجأ، ولا نجاة، وذلك في لقاء الأحداث، ومصادمة الشدائد.
كذبوا: أي كذب عليهم، إذ لم يتحقق لهم ما وعدوا به إلى أن بلغ بهم الحال إلى هذا اليأس.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا}.
حتّى حرف غاية لما قبله.
وهنا كلام محذوف هو الغاية التي يشير إليها هذا الحرف.. والتقدير:
أن مهمة الرسل هي الوقوف في وجه هذا الظلام الزاحف، والتصدّى لتلك القوى العاتية من قوى الشرّ والعدوان، وأنهم مطالبون بأن يثبتوا، ويصبروا، ويصابروا. فإن نصر اللّه آت لا ريب فيه.. وهكذا يظل الرسل في متلاطم الشدائد والمحن، حتى لقد يدخل اليأس عليهم، وتغيم الحياة في أعينهم، ويغمّ عليهم طريق النجاة، ويخيل إليهم أن النصر أبعد ما يكون منهم- عندئذ تهب ريح النصر، وتطلع عليهم تباشير الصباح، فتطوى جحافل الظلام، وتطارد فلوله.
وإذا دولة الباطل قد ذهبت، وذهبت آثارها، وإذا راية الحق قد علت، وخفقت أعلامها.
وفى هذا تسلية للنبىّ الكريم، وشحد لعزيمته، وتثبيت لقدمه، وتطمين لقلبه، وتأكيد للوعد الذي وعد به من ربّه في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة] هذا، وليس في استيئاس الرسل، وفى إطافة الظنون بهم، وبأنهم قد كذبوا- ليس في هذا ما ينقص من قدر الرّسل، أو يشكك في كمال إيمانهم بربهم، واستيقانهم من صدق وعده.. فهم على يقين راسخ بما وعدهم اللّه به، ولكن هناك مواقف حادّة من الضيق، وأحوال بالغة من الشدّة، تأخذ على الإنسان تقديره وتدبيره، وتمثّل له الحقائق المحسوسة التي عايشها، ونزلت من عقله منزل اليقين، وقد قلبت أوضاعها، وتبدّلت حقائقها- عندئذ وللحظة عابرة عبور الطيف، يخون الإنسان يقينه، ويفلت منه زمام أمره.. ثم يعود إلى موقفه، أشدّ تثبتا، وأقوى يقينا، وأرسخ قدما.. إنها سحابة صيف، تغشى وجه الشمس، ثم لا تلبث حتى تزول، وتسفر الشمس عن وجه أبهى بهاء، وأضوأ ضوءا، وأصفى صفاء مما كانت عليه قبل أن تمر بها تلك السحابة العابرة.
فتلك الحال التي تمثل الرسل في هذا الموقف، هي القمة التي تنتهى عندها طاقة الاحتمال البشرى، في مصادمة الأحداث، ومدافعة الأهوال والشدائد.
وهى قمة لا يبلغها إلا أولو العزم من رسل اللّه.. حيث تون الخطوة التالية بعدها انخلاعا من عالم البشر، إلى العالم العلوىّ، وعندها تهبّ ريح النصر، وتجيء أمداد السماء.! وفى هذا ابتلاء للرسل، واستخلاص لكل ما عندهم من مذخور.. من قوى الصبر والعزم والإيمان.
قوله تعالى: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} إشارة إلى أن نصر اللّه الذي يحقق به لرسله ما وعدهم به، يحمل معه من الهلاك والبلاء للقوم المجرمين.. فإن هذا النصر إنما يمشى على جثث أعداء الرسل، الذين حاربوهم هذه الحرب القاسية، ودفعوا بهم إلى تلك المآزق الحرجة، حتى لكادوا يفتنونهم في دينهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [32: التوبة] {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الضمير في {قصصهم} يعود إلى الرسل المذكورين في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ففى قصص الرسل، وفى الصراع الذي يدور بينهم وبين السفهاء والضالين من أقوامهم- في هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وذوى الفطنة والرأى.. حيث ينجلى الموقف دائما عن إظهار دين اللّه، وإعلاء كلمته، وانتصار رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، على حين يقع البلاء والخزي والخذلان بالذين كذبوا رسل اللّه وآذوهم، وصدّوا الناس عن سبيل اللّه.
قوله تعالى: {ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى} أي هذا القصص الذي يقصه اللّه تعالى على نبيّه الكريم، من أنباء الرسل، لم يكن حديثا ملفقا، أو مفترى ولكنه كلام ربّ العالمين، قد تلقاه النبيّ وحيا من ربّه، فجاء مصدّقا لما سبقه من الكتب السماوية، مفصّلا كلّ ما كان مجملا فيها، حاملا الهدى والرحمة لمن يؤمنون به، ويهتدون بهديه، ويستقون من موارده.
وقوله تعالى: {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} معطوف على قوله تعالى: {ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى} وهو عطف يفيد الاستدراك، ويجعل ما بعد {لكن} مخالفا لما قبلها في الحكم الواقع على المعطوف عليه.
وفى قوله تعالى: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في التعبير بالفعل المستقبل {يُؤْمِنُونَ} بدل الفعل الماضي {آمنوا}، مع أن الهدى والرحمة لا يقعان إلا بعد الإيمان- في هذا إشارة إلى أن الهدى والرحمة أمران ذاتيان، ثابتان في هذا الكتاب، يجدهما كل من اتصل به وأخذ عنه، وتعامل معه، على امتداد الزمان، فلا يقطع الماضي ما له من آثار في المستقبل، ولا ينضب معين الهدي والرحمة، على كثرة الواردين.. فهو أبدا مصدر هدى ورحمة للذين يؤمنون به، لا لمن آمنوا به وحدهم، وسبقوا إلى الإيمان.. فللّاحقين حظهم من هداه ورحمته، مثل ما للسابقين، سواء بسواء.. وإنما تختلف حظوظ الناس بحسب استعدادهم لتقبل الهدى، واستئهال الرحمة.. فكتاب اللّه. هو هو، وآياته.. هي هى، والهدى المشّع منه.. هو هو، والرحمة المحملة معه.. هي هى.
لا اختلاف مع الزمن في شيء من هذا، ولا تحوّل أو تبدّل في كلمات اللّه وآياته.. وإنما الذي يختلف ويتبدل ويتحول، هم الناس، وعقول الناس، وقلوب الناس!